الثلاثاء، 10 فبراير 2015


قبسات من الحنين

 

بقلم : حسين أحمد سليم


مجموعة خواطر قصيرة من وحي قريتي الريفية المسماة " النبي رشادي " تيمنا بمقام تاريخي قديم و مقدس, لآذ به الناس ليحميهم من غوائل الأيام ...


رغم النّأي القاهر ما زلت أحنّ بقوّة, إلى تلك القرية الرّيفيّة الحالمة, المتربّعة باطمئنان, على مرمى نظري, إلى الغرب من مدينة الشّمس بعلبك, و التي ترقب المدينة الأمّ بعين وامضة, تستمدّ منها العنفوان و الإباء, و تلتفت إلى الجبل الأعبل الأشمّ, صنّين من خلفها, تتنسم منه السّموّ و الإعتزاز... في تلك البقعة من وطني التّليد, حيث للرّشادي النّبي مقام, و لدت و درجت صبيا, و تعلمت فك الحرف في مدرستها الأولى... و منها قسرا, رحلت باكرا, إلى ضاحية بيروت الجنوبية, التي فيها شببت و ترعرعت و أحببت, و رنّمت بكر ترانيمي النثرية, و دندنت بكر دندناتي الشعرية, و في تلك البقعة, أدركت طور الرجولة, و اقترنت بقدريتي ...

أنا معلّق القلب بتلك القرية البقاعية, الوادعة على مرمى زقزقة العصافير من النّهر التاريخي, إلى الغرب من القلعة الأم, على مقربة من المدينة التاريخية الأسطورة... و التي يتّكئ صنّين بهامته الشّامخة على هضابها الغربية, تحيط بها القرى كالسّوار بالمعصم, كأنها نجمة تتلألأ في كوكبة فلكية هائمة في كبد السماء, يأنس الليل بها, و تأنس هي بمعالم البوح, تنهمر من وحيها, على قلبي لأترنّم بنثرها حينا, و أتغنّى بشعرها أحيانا, و أشكّلها لوحة فنّية تشكيليّة ...

إنّ أمواج الأثير الشّفيف, المنسابة في سماء قريتي الرّيفية, تتنهّد في حنين دائم, تنهدات لا تسمع في مكان آخر, و لا يتحسّسها إلاّ من عاش الحب في ربوع قريتي... و النّجوم تلمع في سماء قريتي المباركة لمعانا أبهى, لا يبصر لمعانها إلاّ من أصابه العشق في قريتي البقاعيّة... و لكويكبات الفصول في سماء قريتي تشكيل جميل, في الشّتاء و الرّبيع و الصّيف و الخريف... أمّا القرى القائمة حول قريتي دائريّا, و هي تشغل محورها, أدعى إلى الأنس و الطّمأنينة و الى الإغراق في التأمل و الإبحار في الأسرار... هيهات لو تدركين منها البعض يا صديقتي و حبيبتي ...
النّظم و الكتابة و الإبداع على ضوء القمر, في كنف قريتي البقاعيّة, أعذب إيحاءا, و أكثر إلهاما, و أجدى إبداعا, في مرحلة المخاض, أو الألم, الذي يعانيه الكاتب أو الأديب أو الشّاعر, من النّظم و الكتابة على ضوء المصباح الكهربائي... لذلك فأنا أحمل نفسي دوريا, إلى قريتي, أجول في شعابها و أزقّتها و دروبها, أر ود طرقاتها, أرقب بيوتها الترابية, أتنسم من لطيف هوائها, أتمرغ في رغام ترابها, أشتم عبير ورودها و أزهارها و نباتها, أبحر في امتدادات سهولها, أهيم في شموخ جبالها, أتزوّد من خيراتها, أحاكي أثيرها, أنتعش بنسيماتها, و أعود أكتب خواطري و كلماتي نثرا و شعرا ...

و أنا أفترش الأرض في قريتي الرّيفية, تحوطني الحواكير و الكروم و البيوت و الأشجار, و أشياء أخرى, و طيف حبيبتي القدرية... و أنا أتبارك بمقام رشادي النبي, أشخص بحنوٍ جامح إلى الشّرق, حيث مطلع الشّمس, من خلف الجبال الشّامخة, بالحصن التّاريخي لأجدادي, لأمتّع ناظري بالسّهل الأخضر الممتد إلى أبعد من النّهر التّاريخي... و أشخص بتمجّد و عنفوان و نهم إلى جلال الجبال في الغرب, التي تتّكئ على امتدادات أراضي أجدادي, تتوجها أشعة الشمس البازغة من الشرق, فتزداد إباء و شموخا... أو يلملم عنها الغروب, و شاح النّور الوردي, و الشّمس في مسارها تمضي... و كأنّي بالسّهل ولد و امتد معي كي آنس به... و كأنّي بالنّهر ما زال يفيض بالمياه جريا يلحق بي... و كأنّي بالحصن الشّرقي تهاوى ليقوم حصني بديلا تاريخيا... و كأنّي بأرض أجدادي تزداد عطاء بعطائي... و كأنّي بتلك الجبال العالية ولدت و كبرت معي ...

ولدت يا صديقتي و حبيبتي القدرية, مجبولا باللبنانية القرويّة الريفية البقاعية, و مضيت فخورا بمعالم قرويتي الطيبة, لا أحمل إلاّ المحبّة العظمى في جوارحي, و لا ينبض قلبي الصّغير إلاّ بالحب المقدّس, و لا أتحسّس إلاّ العنفوان في نفسي الكبيرة, و لا أستشعر إلاّ الإخلاص و التّفاني لوطني و قريتي و أهلي و حبيبتي... و لبنانيتي هذه تتجلّى في كلّ ناحية من نواحي حياتي, و قرويّتي تتجلّى في شخصيّتي و أخلاقي و مسلكي, كما تتجلى في ثقافتي, و تتجسّد في كتاباتي ...

أنا صريح و جريء بك يا صديقتي و حبيبتي القدريّة, أحمل الحقيقة المنشودة في وجداني و ضميري و شخصيتي, و أنا منفتح و متفهّم بك أيضا يا عروس خيالي, أحمل المعرفة و التّجدّد في ثقافتي, و أنا محافظ و حريص بك كذلك, على الوعي و المسؤوليّة في قناعاتي و مبادئي و عقائدي, و أنا طليق معك, بلا قيد يقيّد خطواتي إليك, حرّ في آرائي و أفكاري, و أنا مبحر معك, أغنّي آمالي و رؤاي, بلا عوائق, كنسر يجوب الفضاءات الممتدّة... و أنا يا حبيبتي, أحمل الصّفاء و النّقاء في نفسيّتي, كسماء قريتي الصاحيّة, التي لا تكاد تغيم و تبرق و ترعد, حتّى تعود إلى زرقتها و صفوها, مغسولة نقيّة جليّة كعينيك الهائم بهنّ ...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق