السبت، 7 فبراير 2015


حضارة قريتي

 

بقلم: حسين أحمد سليم

 

و أنا أمارس حياتي بإطمئنان و قناعة في قريتي الإفتراضيّة التي تتراءى لي في البعد الآتِ أو تلك القرية الحقيقيّة التي تتربّع جغرافيّا في أرحبة وطني التّليد... أشعر بأنّني في تكامل لا شائبة له و به مع الأرض, و تنتابني المشاعر العارمة بالنّبل و التّسامي و الطّافحة بكلّ الأحاسيس الأرقى بأنّني على موعد دائم مع الأبديّة... أمّا أقداري القاهرة التي حملتني قهرًا على قهرٍ و كرهًا على كرهٍ و عنوةً من نوع آخر و رمت بي في متاهات المدينة التي أخذتني إليها تلك الأقدار التي فرضت ذاتها على مساراتي في المكان و الزّمان لأشعر بغربة الغربة و ضياع الضّياع في متاهات منفى المنفى, و ليس يجري هذا بي لعدم إستيعابي لواقع المدينة المختلط و التي سكنتها رغمًا عن إرادتي أو لعدم وعيي لعصرنة المدينة و ما فيها من تجدّد مستمرّ في كلّ شيء حتّى في العلاقات, و إنّما لأنّ ما وُلدتُ عليه و نشأت في رحابه و رضعته مع حليب أمّي يجعلني قنوعًا و محافظًا بقوّة على مناحي إلتزاماتي بأصولي العقائديّة و الفكريّة و الأخلاقيّة و الماديّة و التي ظلّت أمينة هي و مؤتمنة على حفظ حياتي القرويّة و الرّيفيّة و الفلاّحيّة...

 

لذلك تراني في كلّ تفاصيل حياتي في أرحبة المدينة مشدودًا إلى التّقاليد و الأعراف و الأصول و الأطعمة الشّعبيّة و القرويّة المرتبطة بالأرض و مهنة الزّرع و الفلاحة و البذار, بحيث حافظت على جذوري و أنا أصارع زيف العصرنة و ظللت في حركة فعل نفاقات و مراآت المدينة قرويّاً ريفيا بكلّ شيء, و كنت أحسّ أنّ الأرض التي أسير عليها في أرحبة المدينة لا تعني لي شيئًا بكلّ ما فيها و عليها, لأنّ السّماء في قريتي الرّيفيّة تختلف عن كلّ السّماوات الأخرى, إنّها تحتضن قريتي الرّيفيّة في بقاع محيط مدينة بعلبك من جميع أطرافها, و لذلك كنت أعتقد بما لا يقبل الشّكّ أنّ السّماء قريبة جدًاً من قمّة جبل الوليّ أحمد الطّائع شفيع قريتي الحدثيّة و المتناغم في الحبّ و العشق مع مقام النّبي رشادة, و دائمًا كان يراودني التّفكّر بأنّني أستطيع أن ألامس سماء بلدتي من تلك القمّة الشّمّاء حيث بقايا مقام الوليّ الطّائع, و كنت أعتقد و ما زلت على إعتقادي من أنّ السّماء تسمع دندنات قلبي و ترانيم نفسي و تجاويد روحي و موسقات همساتي و أنا أختلي بنفسي في رحاب مقام و مسجد النّبي رشادي, أناجي بقايا آثار الوليّ الطّائع غربًا و مقامات و مزارات الخضر الأخضر شرقًا في بلدة الخضر و بلدة حورتعلا و جنوبًا في بلدة كفردبش و مقام النّبي يوسف شمالاً في كفردان, إنّ قبّة السّماء الزّرقاء هي عباءة كبرى  تحمي قريتي الخضراء و أهلها الكرماء كما كرم الأرض و النّهر الليطانيّ المنفجر من نبع العلاّق و يسيل مترنّما في أرجاء وادي البقاع اللبناني...

 

وفق معايير فلسفتي في إستقراءات الجمال, ليس هناك في الكينونة التي تتجلّى فيها عظمة الخالق فيما خلق و أبدع مكان قبيح أو مكان جميل أو آخر رماديّ التّفضيل خارج الوجدان الإنساني, فجماليّة الأشياء تتراءى للبصر شيئًا و للبصيرة شيئًا آخر و تنحفر و تسطع في الوجدان البشريّ عبر تجارب الحياة نفسها... و أنا ككاتب و فنّان تشكيلي لست أملك القوّة المطلوبة على تطويع قلبي و إكراهه على الحبّ الإفتراضيّ أو العشق الخياليّ إنّما هو من يُروّضني على ما يهوى قلبنة و عقلنة وجدانيّة, حيث أرى من منظوري الجماليّ أنّ أجمل ما في الدّنيا هي قريتي الرّيفيّة لأنّني في عقلي الجماليّ الباطنيّ هكذا رأيتها تتماهى جمالاً في كلّ مشهديّاتها و أمكنتها و سهولها و بيوتها و أشجارها و ناسها و طيورها و فراشاتها و مشمشها و عنبها و كرزها و خوخها و مسجدها و مقام نبيّها الرّشاديّ...

 

كلّما مارست الوحدة راحة لنفسي و إنعتاقًا من ربقاتها و من أوامرها الكثيفة على كاهلي الضّعيف لأمارس التّجلّي في هدأة سكينتي و خلوت لنفسي في هجعة ضجعتي تتكوكب النّقطة الإشراقيّة أمام بصري لتنير بصيرتي في فلسفة الإبداع الذي لا يتحقّق خارج منظومة قداسة الحبّ و وضوح الحلم و توكيد الموهبة و حركة فعل التّجربة المبدعة... لتدخل كلّ الإفتراضيات القدريّة في ثنايا الوعي الوجداني و ذاكرة الذّات الممتلئة بالأسرار التي تنمو في خفاياها الصّور و المشهديّات تترافق بنموّها كلّما نما الحلم في المكان و الزّمان وعدًا و عهدًا و قسمًا...

 

أرض قريتي الرّيفيّة البعلبكيّة البقاعيّة, تلك النّجمة القدريّة التي تتماهى كوكبة في شريط هلال قرى و بلدات غربي بعلبك مدينة الشّمس, هي التي نسجت لي في البعد المأمول بالنّجاح تفاصيل أحلامي و أمالي المرتجاة, و سماء قريتي هي السّماء الأولى التي سكبت في أعماقي كلّ ما فيها من أنوار و إمتداد و حنين و إشراقات و إبداعات, و حبّي الأسطوريّ لقريتي جعلني أعشق كلّ ما في قريتي من مشهديّات و لوحات, رغم نأي المسافات التي باعدت بيني و بين قريتي نزولاً عند قهر الأيّام, أرزح تحت ظلامات قاهرة أرخت بكلّ كلكلها على كاهلي السّقيم... و رغم البعد و المسافات الممتدّة فأنا قريب من قريتي و أقرب ممّا لو كنت أسكن فيها, و الفراق الذي أعيش عذاباته يظهر في نفسي التّائهة العواطف المطمورة في أعماق صدري, و يجعلني أرى الأشياء في قريتي بشكل آخر و مختلف...

 

و أنا في البعد الجغرافيّ شكّلت لقريتي تمثالاً يُضاهي كلّ الأنصاب بمجموعها, لأتبارك به كلّما هاج الشّوق في صدري لقريتي, و غالبًا ما كنت أحسّ أنّ نهر الليطاني شرقي قريتي ينبع من قلبي و يسيل من شراييني و عروقي, و أنّ أشجار السّنديان المعمّرة غربي قريتي و التي تحرس ما تبقّى من موروثات الماضي تحرسني في بعدي عن قريتي, لأنّها كانت و تبقى و ستبقى شديدة التّفاؤل بي و تسير إليّ لتنقل لي همس السّاحرات اللواتي يكشفن النّقاب عن أسرار المستقبل, و أنّني مهما نأى بي قدري بعدًا جغرافيّا سأعود إلى تراب قريتي ذات يوم, و أنّ الحياة التي شاءها الله لي و غيري لا بدّ أن تكون عادلة ذات يوم مهما ظلمتني و ظلمني أبناء قريتي... فلقريتي الرّيفيّة جمالها و ميزتها عن باقي القرى في البقاع و من يزور قريتي يشعر أنّه و الشّمس و الأشجار و النّجوم و النّاس و الأشياء غارقون في السّعادة, و لأنّ القلب يترنّم حبورًا و سرورًا و فرحًا و يضحك في رحاب قريتي حتّى في ساعة الموت و فترات الأحزان...

 

عندما تخلو الحياة من شريط الذّكريات تصبح خاوية و خالية و بلا معنى و تفقد قدرتها على حركة فعل الجذب و البناء, و تصبح جثّة هامدة بلا روح... و الحياة بلا طفولة تغدو جامدة و يابسة كالأخشاب, و الطّفولة البريئة هي حنين العقل البشريّ المقلبن إلى إكتشاف الخفايا في أدغال القلب... و عودتي إلى قريتي يومًا تعني العودة إلى أروقة الحبّ و العشق و الإيثار و الإنتصار و الحياة و الإنصهار في مجتمع قريتي الرّيفيّ...

 

كلّ ما أكتب ما هو إلاّ تفعيلاً للرّوح و الذّاتِ من أجل الحياة في قريتي النّائية, و الكتابة عن قريتي الرّيفيّة هي محاولة للعودة إلى زمن الطّفولة و البراءة و الشّفافيّة في التّعامل بلا نوايا أخرى, و بلا خجل دونيّ ينتابنا كصدى للرّغبات الحمراء المكبوتة لأنّ الخجل القرويّ يتسامى رفعة و خلقًا عظيمًا عن كلّ الدّونيات...

 

في قريتي يتماسك النّاس في المحن و الشّدائد, سيّما عندما يحلّ موت في بيت ما فيتقاسمون المعزّون و أهل العزاء الفعل اللازم... و مجتمع قريتي الزّراعيّ يعتمد على كرم الأرض التي تُطعمنا اللقمة الحلال التي تولّد فينا ميلاً للعبادة الشّفيفة بلا مذاهب و بلا طوائف, و الأرض لنا هي بمنزلة الأمّ و الأب... و الكلّ يعمل من أجل نفس الخبز و نفس الحلم, و الليالي الماطرة هي تشكيلات أعراس و فرح للجميع... و في قريتي تتوثّق الرّوابط فيما بين أهلها بحيث الأسرة كلّها تأكل في صحن واحد, و أحياناً يتناوبون الملعقة الخشبية الواحدة...

 

بيوت قريتي الفقيرة و المتراصّة تنام على رؤى العشق و تغفو على قداسة الحبّ, و تصحو على طهارة الحبّ, و الأزقّة الطّينيّة تذكّرك بأنّ السّماء ليست بخيلة.... و الرّعاة يلاحقون العشب و الشّمس من الجبال إلى الجبال. و المنجارة حين ينبعث أنينها تملأ الأرواح قبل المنحدرات و الأودية... و يتفاهمون عبر الأودية, و يتحادثون من واد لواد, و كأنّهم على مائدة واحدة. كانوا يعرفون أشجار الأحراش شجرة شجرة, و يستطيعون السّير في الجبال و المراعي و هم مغمضو العيون, لشدّة معرفتهم بها و كانوا يعرفون مراتب المطر, و متى يسحّ مدراراً, و متى يأتي رذاذاً, كلابهم تفهم أوامرهم بسهولة, و هم لا يقسون مع كلابهم أبداً, يطعمونهم ممّا يأكلون بكرم و سخاء, لأنّهم يفتقدونهم في الليلة الظّلماء, و في المراعي البعيدة, و الذّئاب ترصد خطأ لتنقض على القطيع....

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق